شهر الله المحرم
سمى النبي المحرم شهر الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته كما نسب محمدا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب –عليهم الصلاة والسلام- وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته ونسب إليه بيته وناقته ولما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى كان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز و جل: إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صفرا فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره:
شهر الحرام مبارك ميمون *** والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمـــه لوجه إلهه *** في الخلد عند مليكه مخـــزون
أفضل التطوع بالصيام شهر الله المحرم
خرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: {أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل}، هذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم وقد يحتمل أن يراد: أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملا بعد رمضان، ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي من حديث علي أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان ؟ قال رسول الله : {إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله وفيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب على آخرين}، وفي إسناده مقال، ولكن يقال: أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم شهر شعبان ولم ينقل أنه كان يصوم المحرم إنما كان يصوم عاشوراء وقوله في آخر سنة: {لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع}، يدل على أنه كان يصوم العاشر قبل ذلك.
الذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان أحدهما :التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل، والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله وبعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان وهو ملتحق بصيام رمضان، ولهذا قيل: إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا وقد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فأمره النبي بصيام شوال فترك الأشهر الحرم وصام شوالا. فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان وصيامه أفضل التطوع مطلقا فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم.
أفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم ويشهد لهذا أنه صلى الله عليه و سلم قال في هذا الحديث: {وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل}، ومراده بعد المكتوبة: ولو أحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء لالتحاقها بالفرائض وإنما خالف في ذلك بعض الشافعية، فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم وأفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم.
و قد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن وغيره أفضلها شهر الله المحرم ورجحه طائفة من المتأخرين، وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم. وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه، وخرج النسائي من حديث أبي ذر قال: سألت النبي : أي الليل خير وأي الأشهر أفضل ؟ فقال: {خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم }، وإطلاقه في هذا الحديث أفضل الأشهر محمول على ما بعد رمضان وأفضل شهر الله المحرم عشره الأول.
قال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من محرم وقد وقع هذا في بعض نسخ كتاب "فضائل العشر لابن أبي الدنيا" عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي : أنه كان يعظم هذه العشرات الثلاث وليس ذلك بمحفوظ. وقد قيل: إن العشر الذي أتم الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة وإن التكلم وقع في عاشره. وروي عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي أغفر لهم، وعن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة.
ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا وكان صيامها كلها مندوبا إليه كما أمر به النبي وكان بعضها ختام السنة الهلالية وبعضها مفتاحا لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه وصام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين. و قال ابن مبارك :من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرا يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم فإذا كان البداءة والختام ذكرا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا للجميع ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية
قطعت شهـــور العام لهوا و غفلـة *** ولم تحتــــرم فيمــــا أتيت المحرمـــــا
فـــلا رجبــــــا وافيت فيــه بحقـــــه *** و لا صمت شهر الصوم صوما متمما
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي *** مضى كنت قوامـا و لا كنت محرمــــا
فهل لك أن تمحــــو الذنـــوب بعبرة *** و تبكــــي عليهــا حســــــرة وتندمــــا
وتستقبـل العــــام الجديــــد بتوبــــة *** لعلك أن تمحـــــــو بهــا ما تقدمــــــــا